فصل: تفسير الآيات (1- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (8- 16):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [8- 16].
{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} قال القاشاني: أي: ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال، ليبصر ما يعتبر به، ويسأل عما لا يعلم، ويتكلم فيه؟
وقال السيد المرتضى: هذا تذكير بنعم الله عليهم، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويدفعون بها المضار عنهم؛ لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة، فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، والنطق أيضاً.
وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي: طريقي الخير والشر، قال الإمام: النجد مشهور في الطريق المرتفعة، والمراد بها طريقي الخير والشر، وإنما سماهما نجدين، ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة مسلك فليس الشر بأهون من الخير كما يُظَن، وإلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك، أي: أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاماً تدلهُ عليهما، ثم وهبناهُ الاختيار، فإليه أن يختار أي: الطريقين شاء. فالذي وهب الْإِنْسَاْن هذه الآلات، وأودع باطنه تلك القوى، لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته، ولا يجوز أن يخفى عليه شيء من سريرته.
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي: فلم يشكر تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة. والاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. و{الْعَقَبَةَ} الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها. استعارها لما يأتي، لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} أي: شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفي الاستفهام زيادة تقريرها وكونها عند الله بمكانة رفيعة.
{فَكُّ رَقَبَةٍ} أي: عتقها، أو المعاونة عليه وتخليصها من الرق وأسر العبودية، رجوعاً به إلى ما فطرت عليه من الحرية.
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي: مجاعة.
{يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} أي: قرابة. قال السيد المرتضى: وهذا حضٌّ على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين، على الأجانب في الإفضال.
قال: وقد يمكن في {مَقْرَبَةٍ} أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى، بل من القرب الذي هو من الخاصرة، فكأن المعنى أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضر، وهذا أشبه بقوله تعالى: {ذَا مَتْرَبَةٍ} لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضر. وليس من المبالغة في الوصف بالضر أن يكون قريب النسب. انتهى. وقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أي: فقر شديد لا يواريه إلا التراب. يقال: ترب، كأنه لصق بالتراب. ويقال: فقر مدقع، و: فقير مدقع، بمعنى لاصق بالدقعاء، وهي التراب.
لطيفة:
ذهب الأكثرون إلى أن لا من قوله {فَلَا} نافية. وإنما لم تكرر، مع أن العرب لا تكاد تفردها، كما جاء في آية {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]، {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، استغناء بدلالة بقية الكلام على تكرارها. لأن لا اقتحم لما فسر بما بعده كان في قوة: لافك رقبة ولا أطعم مسكيناً، وفي الآية أجوبة أخرى: منها أنه لما عطف عليه، كان وهو منفي أيضاً، فكأنها كررت. وقيل: لا للدعاء. كقولهم: لا نجا ولا سلم، وقيل: مخففة من ألا التي للتحضيض. وقيل: إنها للنفي فيما يستقبل. وقال الإمام: أما ما قيل من أن لا إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها، ولم تكرر في الآية، فذلك لا يلتفت إليه؛ لأن الكتاب نفسه حجة في الفصاحة. وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (17- 18):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [17- 18].
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالحق الذي جاءهم. عطف على المنفي بلا وهو {اقْتَحَمَ} أو على {فَكُّ}
{وَتَوَاصَوْا} أي: أوصى بعضهم بعضاً {بِالصَّبْرِ} أي: على ما نابهم في سبيل الدعوة إلى الحق {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي: بالرحمة على بعضهم. كقوله:
{رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، أو بموجبات رحمته تعالى من القيام بالحق والصدع به وعمل الصالحات {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي: اليمين، أو جهة اليمين التي فيها السعداء.
تنبيه:
قال القاشاني: يشير قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} الآيات، إلى قهر النفس بتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها، حتى يصير التطبع طبعاً، ثم قال: فإن الإطعام، خصوصاً وقت شدة الاحتياج للمستحق، الذي هو وضع في موضعه، من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها، والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها، وهو الإيمان العلمي اليقيني، والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة، وأخّره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين. والمرحمة أي: التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة، فانظر كيف عدَّدَ أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس. بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل، وعبّر عنها بمعظم أنواعها. وأخص خصالها الذي هو السخاء، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس. وجاء بلفظة {ثُمَّ} لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلوّ، وعبر عن الحكمة به لكونه أُمّ سائر مراتبها وأنوعها.
ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين. وأخر العدالة التي هي نهايتها. واستغنى بذكر المرحمة، التي هي صفة الرحمن، عن سائر أنواعها، كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.

.تفسير الآيات (19- 20):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} [19- 20].
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} أي: بأدلتنا وأعلامنا من الكتب والرسل وغير ذلك من آيات الأنفس والآفاق، التي بها يرتقي إلى معرفة الصراط التي تجب الاستقامة عليه في الاعتقاد والعمل {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أي: الشؤم على أنفسهم، أو جهة الشمال التي فيها الأشقياء. وقال الإمام: أهل اليمين، في لسان الدين الإسلامي، عنوان السعداء. وأهل الشمال عنوان الأشقياء.
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} أي: مطبقة أبوابها، كناية عن حبسهم المخلد فيها، وسد سبل الخلاص منها، أجارنا الله بفضله وكرمه منها.

.سورة الشمس:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [1- 8].
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أي: ضوئها إذا أشرقت. قال الراغب: الضحى انبساط الشمس وامتداد النهار، وبه سمي الوقت. وحقيقته- كما قال الشهاب- تباعد الشمس عن الأفق المرئي وبروزها للناظرين، ثم صار حقيقة في وقته. وقال الإمام: يقسم بالشمس نفسها ظهرت أو غابت لأنها خلق عظيم، ويقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة ومجلى الهداية في عالمها الفخيم. وهل كنت ترى حياً أو تبصر نامياً، أو هل كنت تجد نفسك، لولا ضياء الشمس، جلَّ مبدعهُ؟
{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} أي: تبع الشمس، قال الإمام: وذلك في الليالي البيض، من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة. وهو قسم بالقمر عند امتلائه أو قربه مع الامتلاء؛ إذ يضيء الليل كله مع غروب الشمس إلى الفجر. وهو قسم في الحقيقة بالضياء في طور آخر من أطواره، وهو ظهوره وانتشاره الليل كله.
{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} أظهر الشمس. وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه؛ لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء.
وفي هذه الأقسام كلها- كما قاله الإمام- إشارة إلى تعظيم أمر الضياء وإعظام قدر النعمة فيه ولفت أذهاننا إلى أنه من آيات الله الكبرى ونعمه العظمى، وفي قوله:
{إِذَا جَلَّاهَا} بيان للحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الحكمة الباهرة والآية الظاهرة، وهي حالة الصحو، أما يوم الغيم الذي لا تظهر فيه الشمس، فحاله أشبه بحال الليل الذي يقسم به في قوله:
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} أي: يغشى الشمس ويعرض دون ضوئها فيحجبه عن الأبصار. وذلك في ليالي الظلمة الحالكة المشار إليها بقوله في الآية المتقدمة: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]، على القول الأخير.
قال الإمام: ولقلة أوقات الظلمة عبَّر في جانبها بالمضارع لا مفيد للحاق الشيء وعروضه متأخراً عما هو أصل في نفسه. أما النهار فإنه يجلي الشمس دائماً من أوله إلى آخره؛ وذلك شأن له في ذاته، ولا ينفك عنه إلا لعارض كالغيم أو الكسوف قليل العروض.. ولهذا عبَّر في جانبه بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله، بدون إفادة أنه مما ينفك عنهُ.
{وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} أي: ومن رفعها، وصيّرها بما فيها من الكواكب، كالسقف أو القبة المحكمة الزينة المحيطة بنا. فـ: {مَا} موصولة بمعنى من أوثرت لإرادة الوصفية، أي: والقادر الذي أبدع خلقها.
قالوا: وذكر {وَمَا بَنَاهَا} مع أن في ذكر {السَّمَاء} غنية عنهُ، للدلالة على إيجادها وموجدها صراحة.
{وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} أي: بسطها من كل جانب، لافتراشها وازدراعها والضرب في أكنافها.
قال الإمام: وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية، كما يزعم بعض الجاهلين، أي: بتحريفه الكلم عن معناه المراد منه.
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي: خلقها فعدل خلقها ومزاجها، وأعدها لقبول الكمال:
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي: أفهمها إياهما، وأشعرها بهما، بالإلقاء الملكي والتمكين من معرفتهما، وحسن التقوى وقبح الفجور بالعقل الهيولاني.
لطيفة:
جوز في {مَا} كونها مصدرية في الكل، ولا يضرهُ خلو الأفعال من فاعل ظاهر ومضمر إذ لا مرجع له. وعطف الفعل على الاسم لأنه يكفي لصحة الإضمار دلالة السياق وهي موجودة هنا، وأن العطف على صلة {مَا} لا عليها مع صلتها. فكأنه قيل: ونفس تسويتها، فإلهامها إلخ. وعطف الفعل على الاسم ليس بفاسد. نعم في الوجه الأول توافق القرائن وهو أسدّ. وأما الثاني فوجه يتسع النظم الكريم لهُ. وأما تنكير {نَفْسٍ} فللتكثير أو التعظيم.

.تفسير الآيات (9- 12):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} [9- 12].
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} أي: زكى نفسه وطهرها من رجس النقائص والآثام، أو نمّاها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} أي: أخملها ووضع منها، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله تعالى. هذا ما قاله ابن جرير: وقال غيره: أي: نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خلقت عليها بالجهالة والفسوق. وهو مأخوذ من: دسّ الشيء في التراب، أي: أدخله فيه وأخفاه. وأصل دسَّى دسَّسَ. كتقضّى البازي. وجملة {قَدْ أَفْلَحَ} إلخ جواب القسم وحذف اللام للطول.
قال القاضي: وكأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه، أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية ويذكرهم عظائم الإله ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي هو منتهى كمالات القوة العملية.
وذهب الزمخشري إلى أن هذه الجملة كلام تابع لقوله:
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على سبيل الاستطراد. وجواب القسم محذوف تقديره: ليُدَمْدِنّ الله عليهم، أي: على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود، لأنهم كذبوا صالحاً عليه السلام.
وقد دل عليه قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} أي: بسبب طغيانها ومجاوزتها الحدّ في الفجور. فالطغوى مصدر. وجوز أن يراد به العذاب نفسه، على حذف مضاف أو بدونه مبالغة كما يوصف بغيره من المصادر، أي: كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى، كقوله:
{فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} فالطغوى على هذا من التجاوز عن الحدّ والزيادة في العذاب. والباء صلة {كَذَّبَتْ} وقوله تعالى: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} ظرف لـ: {كَذَّبَتْ} أو طغوى، أي: حين قام وأشقى ثمود لعقر ناقة صالح عليه السلام. وكانوا نهوا عن مسّها بسوء، وأنذروا عاقبة المخالفة، كما قال تعالى:

.تفسير الآيات (13- 15):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [13- 15].
{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} يعني صالحاً عليه السلام لقومه.
{نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} أي: احذروا واتقوا ناقة الله التي جعلها آية بينة وشربَها، الذي اختصه الله به في يومها. وكان عليه السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم آخر، غير يوم الناقة، كما بينته آية الشعراء قال: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 155- 156]، أي: لا تؤذوا الناقة ولا تتعدوا عليها في شربها ويوم شربها {فَكَذَّبُوهُ} أي: فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا {فَعَقَرُوهَا} أي: قتلوها.
قال في النهاية: أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. ثم اتسع حتى استعمل في القتل والهلاك، وذلك أنهم أجمعوا على منعها الشرب ورضوا بقتلها. وعن رضا جميعهم قتلها قاتلها وعقرها من عقرها، ولذلك نسب التكذيب والعقر على جميعهم {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} أي: أهلكهم وأزعجهم بسبب كفرهم به وتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته، استهانةً به واستخفافاً بما بعث به. وقيل: دمدم أطبق عليهم العذاب. وقيل: الدمدمة حكاية صوت الهدة {فَسَوَّاهَا} أي: فسوى الدمدمة عليهم جميعاً، فلم يفلت منهم أحد.
بمعنى جعلها سواء بينهم أو الضمير لثمود، أي: جعلها عليهم سواء {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي: لا يخشى تبعة إهلاكهم لأنه العزيز الذي لا يغالب.
قال الشهاب: أي: لا يخاف عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما تفعله، فهو استعارة تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله. فالضمير في {يَخَافُ} لله وهو الأظهر. ويجوز عوده للرسول صلى الله عليه وسلم أي: أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وهو على الحقيقة، كما إذا قيل: الضمير للأشقى، أي: أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع. والواو الحال أو الاستئناف.
تنبيه:
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: المقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلالة والكفر عن علم ويقين، ولهذا- والله أعلم- ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة المهتدية وإلى الفاجرة الضالة الغاوية. وذكر فيها الأصلين: القدر والشرع. فقال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]، فهذا قدره وقضاؤه ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9]، فهذا أمره ودينه. وثمود هداهم فاستحبوا العمى على الهدى. فذكر قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى، والتدسية على التزكية. والله أعلم.